الوجه الآخر للذكاء الاصطناعي: تحديات بيئية متصاعدة
في متابعةٍ لموضوع الذكاء الاصطناعي الذي تناولته في منشوري السابق هل
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل الإنسان في مختلف المجالات الإبداعية؟،
وجدت نفسي أتساءل: ما التأثير البيئي للذكاء الاصطناعي وما هي المتطلبات التشغيلية
لأنظمته؟ وما حجم الطاقة والماء الذي يستهلكه؟ وهل يمكن اعتباره تقنية صديقة
للبيئة؟
أشارك في هذا المقال ما توصلت إليه من خلال قراءتي لعدد من الدراسات
والمقالات التي تناولت هذا الموضوع من زوايا متعددة.
بداية، نوع المعدات والحواسيب التي يحتاجها الذكاء الاصطناعي للعمل
بكفاءة:
1. حواسيب خارقة(Supercomputers)
أنظمة متخصصة ذات قدرة حسابية هائلة لتدريب وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي
المتقدمة، تحتوي على آلاف المعالجات الرسومية (GPUs) أو وحدات معالجة مخصصة.
2.
أنظمة DGX من NVIDIA
مصممة خصيصًا لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق بكفاءة عالية.
3.
مسرّعات الذكاء الاصطناعي (AI Accelerators)
مخصصة لتسريع عمليات الذكاء الاصطناعي، خاصة في المعالجة المتوازية.
4.
البنية التحتية السحابية (Cloud Infrastructure)
تعتمد شركات مثل
OpenAI على خدمات سحابية من Microsoft Azure،
التي تقدم مراكز بيانات ضخمة تحتوي على آلاف الخوادم المجهزة بوحدات GPU متقدمة.
تتيح هذه البنية تدريب نماذج مثل GPT-4 وGPT-5 على ملايين
المعاملات في وقت قصير.
وكما هو متوقع فإن تشغيل ما سبق يتطلب كميات هائلة من الطاقة واستهلاكًا
كبيرًا للماء في أنظمة التبريد.
ما كمية الطاقة التي يستهلكها الذكاء الاصطناعي؟
يُتوقع أنه بحلول عام 2030، قد يحتاج حاسوب فائق واحد إلى: 9 غيغاواط
من الكهرباء، أي ما يعادل إنتاج 9 مفاعلات نووية. هذا يكفي لتزويد 7 إلى 9 ملايين
منزل بالطاقة. أما الأجهزة الحالية مثلColossus فهي تحتوي على 200,000 شريحة ذكاء اصطناعي وتستهلك
300 ميغاواط، أي ما يعادل استهلاك 250,000 منزلًا.
بالنسبة لمراكز البيانات التقليدية، تستهلك Google حوالي
15,5 تيراواط/ساعة سنويًا و Meta أكثر من 9 تيراواط/ساعة.
كما تتطلب مهام الذكاء الاصطناعي قوة حوسبة أكبر بكثير من المهام التقليدية
عبر الإنترنت، مثل التسوق أو البحث على الإنترنت - وخاصةً للأنشطة المعقدة مثل إنشاء
الصور أو مقاطع الفيديو. لذا، فإنها تستهلك قدرًا أكبر من الكهرباء.
يصعب تحديد الفرق كميًا، لكن تشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية (IEA) إلى أن سؤالًا أو استفسارًا واحدًا على منصة ChatGPT،
يستهلك ما يقرب من عشرة أضعاف كمية الكهرباء التي يستهلكها سؤال أو استفسار بحثي واحد
على Google. وزيادة الكهرباء تعني المزيد
من الحرارة، وبالتالي الحاجة لمزيد من التبريد.
ما كمية الماء التي يستهلكها الذكاء الاصطناعي؟
فيما يتعلق بتبريد الخوادم بالماء نجد أن مراكز البيانات تستهلك ملايين
الليترات من الماء يوميًا، خاصة في المناطق الحارة. وجدت دراسة من جامعة ماساتشوستس
أن تدريب نموذج واحد كبير قد يستهلك ما يعادل 300 رحلة طيران من حيث الانبعاثات، ما
يعكس أيضًا استهلاكًا غير مباشر للماء.
وخلصت دراسة أجراها أكاديميون أمريكيون في كاليفورنيا وتكساس إلى أن
10-50 إجابة من GPT-3،
تستهلك نصف لتر من الماء - أي ما بين ملعقتين صغيرتين وعشر ملاعق صغيرة من الماء
لكل إجابة.
تختلف تقديرات كمية الماء المستخدمة تبعًا لعوامل مثل نوع الاستعلام
(السؤال المطروح) ومدة الاستجابة له ومكان معالجة الاستجابة والعوامل المُراعاة
لإعطاء الإجابة. يشمل هذا التقدير أيضًا الماء المستخدم لتوليد الطاقة، مثل البخار
الذي يُشغّل توربينات محطات الطاقة التي تعمل بالفحم أو الغاز أو الطاقة النووية.
ومع ذلك، فإن استخدام الماء في تزايد متواصل، إذ تقول شركة OpenAI
إن ChatGPT
يجيب على مليار استفسار يوميًا - وهو مجرد واحد من بين العديد من
روبوتات الذكاء الاصطناعي التي يستخدمها سكان الأرض.
وتقدر الدراسة الأمريكية أنه بحلول عام 2027، سيستخدم قطاع الذكاء
الاصطناعي سنويًا ما بين أربعة إلى ستة أضعاف كمية الماء التي تستهلكها دولة
الدنمارك بأكملها.
تتم معالجة الأنشطة عبر الإنترنت، من رسائل البريد الإلكتروني والبث المباشر
إلى إنشاء المقالات أو صناعة مقاطع الفيديو، بواسطة رفوف ضخمة من خوادم الحاسوب في
منشآت ضخمة تُسمى مراكز البيانات - يصل حجم بعضها إلى حجم عدة ملاعب كرة قدم. ترتفع درجة
حرارة هذه الخوادم مع سريان الكهرباء عبر الحواسيب، ويُعد الماء - الذي عادةً ما يكون
ماءً عذبًا نظيفًا - عنصرًا أساسيًا في أنظمة التبريد المستخدمة لتبريد تلك الخوادم
والحواسيب، وعلى الرغم من أن طرق التبريد بالماء قد تتنوع، إلاّ أن أغلبها قادر على
تبخير ما يصل إلى 80 في المئة من الماء المستخدم وإطلاقه في الغلاف الجوي.
ولا تُقدم شركات تقنيات الذكاء الاصطناعي الكبرى أرقامًا عن استخدام الماء
في أنشطتها الخاصة بالذكاء الاصطناعي، إلا أن إجمالي استخدامها للماء يرتفع تدريجيًا.
فقد شهدت كل من Google
و
Meta و Microsoft
- وهي شركات مستثمرة رئيسية ومساهمة في شركة OpenAI
- زيادات كبيرة في استخدام الماء منذ عام 2020، وفقًا لتقاريرها البيئية.
حيث تضاعف استخدام Google للماء تقريبًا خلال تلك الفترة،
أما خدمات Amazon Webفلم تُقدم
أية أرقام.
ومع توقع نمو الطلب على الذكاء الاصطناعي، تتوقع وكالة الطاقة الدولية
أن يتضاعف استخدام مراكز البيانات للماء بحلول عام 2030، بما في ذلك استخدام الماء
في توليد الطاقة وتصنيع رقائق الحاسوب.
ما كمية انبعاثات الكربون المتولدة عن استخدام الذكاء الاصطناعي؟
بالإضافة إلى ما سبق نجد أن الذكاء الاصطناعي يساهم في زيادة البصمة الكربونية
بشكل ملحوظ ومن المتوقع أن تصل انبعاثات قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى
14% من الانبعاثات العالمية بحلول 2040.
عادةً ما يتمحور الحديث عن تقليل البصمة الكربونية للذكاء الاصطناعي
التوليدي حول "الكربون التشغيلي" بينما يتجاهل هذا الحديث "الكربون
المُضمن"، أي الانبعاثات الناتجة عن بناء مركز البيانات في المقام الأول.
هل تستحق النتيجة كل هذه التكلفة البيئية؟
يُستخدم الذكاء الاصطناعي للمساعدة في تقليل الضغط على كوكب الأرض، على
سبيل المثال للمساعدة في العثور على تسربات غاز الميثان المُسبب للاحتباس الحراري،
أو لإعادة توجيه حركة المرور عبر طرق محددة لتوفير الوقود. كما يمكن للذكاء الاصطناعي
إحداث تغيير جذري للأطفال حول العالم في مجالات التعليم والصحة.
لكن وفق تصريحات لورينا جاومي-بالاسي، الباحثة المستقلة التي قدمت استشارات
للعديد من الحكومات الأوروبية وهيئات الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، والتي تدير
شبكة تُسمى "جمعية التكنولوجيا الأخلاقية"، إنه لا توجد طريقة لجعل النمو
الهائل للذكاء الاصطناعي مستدامًا بيئيًا.
وتضيف: يمكننا جعله فعالًا، لكن زيادة كفاءته تعني أننا سنزيد من استخدامه.
موضحة أنه: على المدى الطويل، ليس لدينا ما يكفي من المواد الخام لدعم هذه المنافسة
على إنشاء أنظمة ذكاء اصطناعي أكبر وأسرع.
بالنظر إلى ما سبق، يتضح أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية متقدمة
تُحدث ثورة في مجالات متعددة، بل هو أيضًا عامل بيئي مؤثر يتطلب منا إعادة التفكير
في كيفية تطويره واستخدامه. فبين استهلاك ضخم للطاقة والماء وانبعاثات كربونية
متزايدة، يطرح الذكاء الاصطناعي تحديات بيئية لا يمكن تجاهلها. وعلى الرغم من
فوائده المحتملة في تحسين كفاءة الموارد وحل بعض المشكلات البيئية، إلا أن
استدامته البيئية ما تزال موضع شك.
لذلك، فإن مستقبل الذكاء الاصطناعي يجب أن يُبنى على أسس من
المسؤولية البيئية، والشفافية في استهلاك الموارد، والابتكار في تقنيات أكثر كفاءة
وأقل ضررًا. فالسؤال الحقيقي لم يعد فقط "ما الذي يمكن للذكاء الاصطناعي أن
يفعله؟" بل "كيف يمكننا أن نجعله يفعل ذلك دون أن يُثقل كاهل كوكبنا؟".
.png)
Comentarios
Publicar un comentario